نسأل الله أن يثبتنا على دينه حتى نلقاه ، والله أعلم | ولذلك انصبَّت دعوة الرُّسل عليها بالأساس، وليس معنى ذلك أنّه لا يوجد هناك انحراف غيره، فالانحراف أنواع، فوُجِد الشِّيوعيون والملحدون ينكرون وجود الله بالكلية، كما وجد الجهمية الذين يشركون في الأسماء والصفات أو ينفون توحيدَ الأسماء والصفات، ولذلك العالم النَّابغ الذكي الذي يفهم الأمور ينصبُّ جُهدَه على مُنكَر عصره، والمصلح الداعية الذي يريد الأجر الأكثر ينصبُّ جهده على أكثر ما وقع النَّاس عليه في زمنه من الانحراف، فلما تريد أن تُقوِّم أخطاءً ومنكراتٍ عند الناس فلا تقوم تَصبُّ جهدك في قضية الناس مُسلِّمين فيها، فمثلاً: النَّاس مؤمنون بوجود الله، فتقول أُريد أُخَصِّص عشرين خطبةً وأُألِّفُ الكتبَ وأُلقِي كلَّ المحاضرات في إثبات وجود الله، فإذاً ليس من الحكمة أنَّك تصب معظم الجهد في قضية الناس مسلِّمين فيها، لكن ستصب الجهد الأكبر في منكر عصرك الشائع، تنظر ما هو أكثر منكر شائع في عصرك فتصبَّ عليه الجهد، هذه هي الحكمة، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، -لمن استعظم مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية- صبَّ جُهدَه لكثرة المنحرفين في باب الأسماء والصفات في عصره، تكلَّم فيه كلاماً كثيراً جداً، وتَكلَّم في أبواب أخرى: المنحرفون في القضاء والقدر، وشاتم الرَّسول، وأشياء كثيرة أخرى، وحتى في قضايا السلوكيات ألَّف كتاب الاستقامة، وأنكر على الصوفية في مسائل كثيرة جداً، لكن انصبَّ جُهدَه في أكثر ما وقع الانحراف فيه في عصره |
---|---|
ومن الأدلة العقلية ما أومأ إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ 35 الطور، هل أنت خُلقت من غير شيء؟ ستجد الإجابة معروفة: أنني خلقت من شيء | وقال في موطن آخر أيضًا: كلما تدبّر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خلقت للحق بالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين، ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مدبّرات، مسخّرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبّرها ومصرّفها، فتعرف أن العالَم العلويَّ والسفلي كلَّهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا ربّ سواه |
أضف إلى ذلك ما تجده من افتقار المخلوق الشديد؛ فالافتقار وصف ذاتي للمخلوق ملازم له؛ ما يدلّ على أنه لا بدّ من وجود خالق، كامل، غني عمّا سواه، وهو ربّ العالمين.
1وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية، وفي الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدم العلمي وفي الفوائد التي تنجم عنه | وكلامه هذا مجرد دعوى لم يقم عليها بينة، ولا دليل، بل كان هو نفسه غير مؤمن بما يقول |
---|---|
ومن اللطائف الأخرى، قالوا: حدث أن مطبعة انفجرت، فطارت الحروف والأوراق ولصقت بالورقة وأخرجت لنا رسالة أو قصيدة جميلة جدًّا، وهذا حدث مصادفة، قالوا: لا يمكن أبدًا، فيقال: إذا لم يمكن هذا في ورقة وفي رسالة صغيرة، فكيف بهذا الكون العظيم البديع الذي دبّره الله سبحانه وتعالى؟ ثالثًا: نداء الفطرة الفطرة في اللغة هي الخلقة، أما في الشرع فهي الإسلام على القول الراجح | الأحد أصله الوَحَد ويقال: الفرق بين الواحد والأحد أن الأحد بُني لنفي ما يُذكر معه من العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد |
فالداعية المصلح الذي يسير على خُطى الأنبياء يعرض الدِّين كاملاً، حتى يفهمونه النَّاس، فلا يعرض لهم مقطعاً واحداً من الدِّين ويهمل الباقي، ويكون الجُهدُ الأكثرُ في الإنكار في قضية المعصية أو المُنكر الموجود في عصره، وقد لا يكون منكراً واحداً، او المُشكلة واحدة، يمكن تكون المشاكل كثيرة، كحال النَّاس اليوم واقعون في مشاكل كثيرةٍ جداً، فهل من الحكمة أن تقول أُريد أنَّ أُخَصِّص عشرين خطبةً في قضية خَلق القرآن، في هذا العصر: فهل يوجد من يُؤَلِّف وينشُر في قضية خلق القرآن، وأن القرآن مخلوق؟ لكن في عصر الإمام أحمد يكاد أنَّ يكون هذا أكبر مُنكرٍ ظَهر، ولذلك خَصَّصَّ له جهداً عظيماً في الإنكار، ومَرَّت سنوات من المعارك بينه وبين خصومه، في السجن وخارج السجن وفي التألِيف والفتاوى؛ لأن القضية كانت منتشرة، فلذلك لو شخص في بلد فيها قبوريات وأضرحة، فيَصُب عليها التَّركيز، وآخر عندهم قضية شرك لله في مسألة القوانين الوضعية والدَّساتير المخالِفة للشريعة، ويعطون البرلمان حق التشريع، ويُقَاطعون مواد مخالفة للدين، فيصب الجهد على قضية أنَّ الحكم لله، ومحاربة قضية الحكم بغير ما أنزل الله، وإذا كان في بلد فيها مثلاً الصوفية كثُر جداً ووحدة الوجود، سيتكلم عن هذا الموضوع ويخصُّه بمزيد من العناية، وهكذا يكون منهج الدَّعوة وهي: استعمال الجهد في الأولويات، فهذه مهمة جداً، مع عَرض شامل للدِّين، حتى لا يفهم الناس أنَّ الدِّين كُلّه هو أنك لا تعبد القبور، ولا أنَّ الدِّين كله أنك لا تقول البدع بالأذكار، ولا أنَّ الدِّين هو فقط أن الحكم فقط بما أنزل الله، فلازم نعرض الدين شاملاً، لكن يجب أن نحاور ونُؤلِّف ونُحاضر ونخطب في المجالس على المنكرات التي يكون الناس واقعين فيها ومنتشرة في أوساطهم بكثرة، ومن سوء عصرنا هذا أنَّ أكثر شيء مُنتَشِر في هذا العالم هي قضية العولمة، وهذه سيكون لها تأثير حتى في قضايا عرض الدِّين والتَّوحيد والعقيدة والدعوة، فقبل العولمة كان الشَّخص في القرية أو في بلد ما يتكلَّم على مشكلات واقعه في العقيدة والدِّين والأخلاق وفي العبادات وفي الأذكار، يتكلم على المشكلة المعينة، لكن لما تتعولم المسألة وتتكوكب -كما يقولون- ويصير كل الذي عند غيرنا عندنا والذي عندنا عند غيرنا، فتصير القضية مُعقَّدةً أضعافاً مضاعفة؛ لأن الناس يطَّلِعون على كل شيء بسهولة، على كل كفرٍ ومنكر في الأرض، فالفضائيات تنقل السِّحر والشعوذة، والقبوريات، والطريقة الرفاعية، والدَّساتير الغربية، والتَّشبُّه بالكفار، والرذائل، وعرض الأزياء، ومسابقات ملكات الجمال، وكلُّ شيءٍ سَيء، فالآن بالعولمة ستصبح عملية الدَّعوة والإنكار والبيان والعمل ومقاومة المنكرات العقدية والأخلاقية قضية شاملة.
20